فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (8):

{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الْوَارِثِينَ الْفِرْدَوْسَ: أَنَّهُمْ رَاعُونَ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ، أَيْ: مُحَافِظُونَ عَلَى الْأَمَانَاتِ، وَالْعُهُودِ، وَالْأَمَانَةُ تَشْمَلُ: كُلَّ مَا اسْتَوْدَعَكَ اللَّهُ، وَأَمَرَكَ بِحِفْظِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهَا حِفْظُ جَوَارِحِكَ مِنْ كُلِّ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ، وَحِفْظُ مَا ائْتُمِنْتَ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ، وَالْعُهُودُ أَيْضًا تَشْمَلُ: كُلَّ مَا أُخِذَ عَلَيْكَ الْعَهْدُ بِحِفْظِهِ، مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، وَحُقُوقِ النَّاسِ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ حِفْظِ الْأَمَانَاتِ وَالْعُهُودِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [4/ 58] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [8/ 27] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سَأَلَ سَائِلٌ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [70/ 32] وَقَوْلِهِ فِي الْعَهْدِ: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [17/ 34] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الْآيَةَ [5/ 1]، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [48/ 10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [16/ 91] وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الْآيَةَ [21/ 78]، وَقَوْلِهِ: رَاعُونَ: جَمْعُ تَصْحِيحٍ لِلرَّاعِي، وَهُوَ الْقَائِمُ عَلَى الشَّيْءِ، بِحِفْظٍ أَوْ إِصْلَاحٍ كَرَاعِي الْغَنَمِ وَرَاعِي الرَّعِيَّةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» الْحَدِيثَ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحْدَهُ: لِأَمَانَتِهِمْ بِغَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ النُّونِ، عَلَى صِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَالْبَاقُونَ بِأَلِفٍ بَعْدَ النُّونِ، عَلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ.

.تفسير الآية رقم (9):

{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الْوَارِثِينَ الْفِرْدَوْسَ: أَنَّهُمْ يُحَافِظُونَ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا تَشْمَلُ إِتْمَامَ أَرْكَانِهَا، وَشُرُوطِهَا، وَسُنَنِهَا، وَفِعْلِهَا فِي أَوْقَاتِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ نَيْلِ الْفِرْدَوْسِ أَمَرَ تَعَالَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} الْآيَةَ [2/ 238]، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [70/ 34] وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [70/ 22- 23] وَذَمَّ وَتَوَعَّدَ مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [19/ 59].
وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} الْآيَةَ [107/ 54]، وَقَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} الْآيَةَ [4/ 142]، وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» الْحَدِيثَ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ مَوْضُوعَ كِتَابِنَا بَيَانُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَلَا نَذْكُرُ غَالِبًا الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانٌ غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ، فَنُتَمِّمُ الْبَيَانَ مِنَ السُّنَّةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا، وَذَكَرْنَاهُ فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِالصِّفَاتِ، الَّتِي قَدَّمْنَا هُمُ الْوَارِثُونَ، وَحَذَفَ مَفْعُولَ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الْوَارِثُونَ؛ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [23/ 11] عَلَيْهِ. وَالْفِرْدَوْسُ: أَعْلَى الْجَنَّةِ، وَأَوْسَطُهَا، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ- جَلَّ وَعَلَا-، وَعَبَّرَ تَعَالَى عَنْ نَيْلِ الْفِرْدَوْسِ هُنَا بَاسِمِ الْوِرَاثَةِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى الْوِرَاثَةِ وَالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [19/ 63] وَقَوْلِهِ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [7/ 43] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} الْآيَةَ [39/ 74] فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} [19/ 63] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: عَلَى صَلَاتِهِمْ بِغَيْرِ وَاوٍ، بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: {عَلَى صَلَوَاتِهِمْ} [23/ 9] بِالْوَاوِ الْمَفْتُوحَةِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ الَّذِي هُوَ اسْمُ جِنْسٍ، إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، كَانَ صِيغَةَ عُمُومٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، أَيْ: بِلَا انْقِطَاعٍ أَبَدًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [11/ 108] أَيْ: غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [38/ 54] وَقَالَ تَعَالَى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [16/ 96] كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} بَيَّنَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَطْوَارَ خَلْقِهِ الْإِنْسَانَ وَنَقْلِهِ لَهُ، مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، لِيَدُلَّ خَلْقُهُ بِذَلِكَ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ- جَلَّ وَعَلَا-، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ مَعْنَى النذُّطْفَةِ، وَالْعَلَقَةِ، وَالْمُضْغَةِ، وَبَيَّنَّا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمُخَلَّقَةِ، وَغَيْرِ الْمُخَلَّقَةِ، وَالصَّحِيحِ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْضَحْنَا أَحْكَامَ الْحَمْلِ إِذَا سَقَطَ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً هَلْ تَنْقَضِي بِهِ عِدَّةُ الْحَامِلِ أَوْ لَا؟
وَهَلْ تَكُونُ الْأَمَةُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ إِنْ كَانَ مِنْ سَيِّدِهَا أَوْ لَا؟ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَمْلِ السَّاقِطِ، وَمَتَى يَرِثُ، وَيُوَرَّثُ، وَمَتَى يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَاتِ} [22/ 5]، وَسَنَذْكُرُ هُنَا مَا لَمْ نُبَيِّنْهُ هُنَالِكَ مَعَ ذِكْرِ الْآيَاتِ الَّتِي لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، أَمَّا مَعْنَى السُّلَالَةِ: فَهِيَ فُعَالَةٌ مِنْ سَلَلْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ، إِذَا اسْتَخْرَجْتَهُ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
خَلَقَ الْبَرِيَّةَ مِنْ سُلَالَةِ مُنْتِنٍ ** وَإِلَى السُّلَالَةِ كُلِّهَا سَتَعُودُ

وَالْوَلَدُ سُلَالَةُ أَبِيهِ كَأَنَّهُ انْسَلَّ مِنْ ظَهْرِ أَبِيهِ.
وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:
فَجَاءَتْ بِهِ عَضْبَ الْأَدِيمِ غَضَنْفَرًا ** سُلَالَةُ فَرْجٍ كَانَ غَيْرَ حَصِينِ

وَبِنَاءُ الِاسْمِ عَلَى الْفُعَالَةِ، يَدُلُّ عَلَى الْقِلَّةِ كَقُلَامَةِ الظُّفْرِ، وَنُحَاتَةِ الشَّيْءِ الْمَنْحُوتِ، وَهِيَ مَا يَتَسَاقَطُ مِنْهُ عِنْدَ النَّحْتِ، وَالْمُرَادُ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ سُلَالَةِ الطِّينِ: خَلْقُ أَبِيهِمْ آدَمَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [3/ 59].
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِيمَا مَضَى أَطْوَارَ ذَلِكَ التُّرَابِ، وَأَنَّهُ لَمَّا بُلَّ بِالْمَاءِ صَارَ طِيبًا وَلَمَّا خُمِّرَ صَارَ طِينًا لَازِبًا يُلْصَقُ بِالْيَدِ، وَصَارَ حَمَأً مَسْنُونًا، قَالَ بَعْضُهُمْ: طِينًا أَسْوَدَ مُنْتِنًا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَسْنُونُ: الْمُصَوَّرُ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ، ثُمَّ لَمَّا خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ خَلَقَ مِنْهُ زَوْجَهُ حَوَّاءَ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [4/ 1] وَقَالَ فِي الْأَعْرَافِ: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [7/ 189] وَقَالَ فِي الزُّمَرِ: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [39/ 6] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ كُلِّهِ، ثُمَّ لَمَّا خَلَقَ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ، كَانَ وُجُودُ جِنْسِ الْإِنْسَانِ مِنْهُمَا عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ، فَأَوَّلُ أَطْوَارِهِ: النُّطْفَةُ، ثُمَّ الْعَلَقَةُ، إِلَخْ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَغْلَبَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ، وَقَوْلُهُ هُنَا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [23/ 12] يَعْنِي: بَدْأَهُ خَلْقَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ بِخَلْقِ آدَمَ، وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} [23/ 13]، أَيْ: بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ وَحَوَّاءَ، فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، الَّذِي هُوَ النَّسْلُ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ أَيْ: وَنِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرُ، كَمَا أَوْضَحَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [32/ 6- 9] وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [30/ 20] وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَطْوَارِ خَلْقِهِ الْإِنْسَانَ، أَمَرَ كُلَّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إِلَّا لِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْهُ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} الْآيَةَ [86/ 5- 6]، وَقَدْ أَشَارَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، إِلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ بِنَقْلِهِ الْإِنْسَانَ فِي خَلْقِهِ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ، كَمَا أَوْضَحَهُ هُنَا؛ وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [71/ 13- 14] وَبَيَّنَ أَنَّ انْصِرَافَ خَلْقِهِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي هَذَا وَالِاعْتِبَارِ بِهِ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ التَّسَاؤُلَ وَالْعَجَبَ، وَأَنَّ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِ قُدْرَتِهِ نَقْلَهُ الْإِنْسَانَ مِنَ النُّطْفَةِ، إِلَى الْعَلَقَةِ، وَمِنَ الْعَلَقَةِ إِلَى الْمُضْغَةِ إِلَخْ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَشُقَّ بَطْنَ أُمِّهِ بَلْ هُوَ مُسْتَتِرٌ بِثَلَاثِ ظُلُمَاتٍ: وَهِيَ ظُلْمَةُ الْبَطْنِ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ الْمُنْطَوِيَةِ عَلَى الْجَنِينِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ- جَلَّ وَعَلَا-: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [39/ 6] فَتَأَمَّلْ مَعْنَى قَوْلِهِ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، أَيْ: عَنْ هَذِهِ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ، الَّتِي فَعَلَهَا فِيكُمْ رَبُّكُمْ وَمَعْبُودُكُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [3/ 6] وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [22/ 5] ثُمَّ ذَكَرَ الْحِكْمَةَ فَقَالَ: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [22/ 5] أَيْ: لِنُظْهِرَ لَكُمْ بِذَلِكَ عَظَمَتَنَا، وَكَمَالَ قُدْرَتِنَا، وَانْفِرَادَنَا بِالْإِلَهِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [40/ 67] وَقَالَ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [75/ 36- 40] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَبْهَمَ هَذِهِ الْأَطْوَارَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [70/ 39] وَذَلِكَ الْإِبْهَامُ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِمْ وَعَظَمَةِ خَالِقِهِمْ- جَلَّ وَعَلَا-، فَسُبْحَانَهُ- جَلَّ وَعَلَا- مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ وَمَا أَكْمَلَ قُدْرَتَهُ، وَمَا أَظْهَرَ بَرَاهِينَ تَوْحِيدِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي آيَةِ الْمُؤْمِنُونَ هَذِهِ: أَنَّهُ يَخْلُقُ الْمُضْغَةَ عِظَامًا، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّهُ يُرَكِّبُ بَعْضَ تِلْكَ الْعِظَامِ مَعَ بَعْضٍ، تَرْكِيبًا قَوِيًّا، وَيَشُدُّ بَعْضَهَا مَعَ بَعْضٍ، عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَبْدَعِهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} الْآيَةَ [76/ 28]، وَالْأَسْرُ: شَدُّ الْعِظَامِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، وَتَآسِيرُ السَّرْجِ وَمَرْكَبُ الْمَرْأَةِ السُّيُورُ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:
وَمَا دَخَلَتْ فِي الْخَدْبِ حَتَّى تَنَقَّضَتْ ** تَآسِيرُ أَعْلَى قَدِّهِ وَتَحَطَّمَا

وَفِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ: أَسَرَ قَتَبَهُ يَأْسِرُهُ أَسْرًا شَدَّهُ بِالْأَسَارِ وَهُوَ الْقَدُّ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَسِيرُ، وَكَانُوا يَشُدُّونَهُ بِالْقَدِّ، فَقَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَاللُّغَوِيِّينَ: أَسْرَهُمْ أَيْ: خَلْقَهُمْ فِيهِ قُصُورٌ فِي التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ هُوَ الشَّدُّ الْقَوِيُّ بِالْأَسَارِ الَّذِي هُوَ الْقَدُّ، وَهُوَ السَّيْرُ الْمَقْطُوعُ مِنْ جِلْدِ الْبَعِيرِ وَنَحْوِهِ، الَّذِي لَمْ يُدْبَغْ وَاللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- يَشُدُّ بَعْضَ الْعِظَامِ بِبَعْضٍ، شَدًّا مُحْكَمًا مُتَمَاسِكًا كَمَا يَشُدُّ الشَّيْءَ بِالْقَدِّ، وَالشَّدُّ بِهِ قَوِيٌّ جِدًّا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [23/ 13] الْقَرَارُ هُنَا: مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ، وَالْمَكِينُ: الْمُتَمَكِّنُ، وَصَفَ الْقَرَارَ بِهِ لِتَمَكُّنِهِ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يُعْرَضُ لَهُ اخْتِلَالٌ، أَوْ لِتَمَكُّنِ مَنْ يَحِلُّ فِيهِ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الْقَرَارُ: الْمُسْتَقِرُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الرَّحِمُ وُصِفَتْ بِالْمَكَانَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الْمُسْتَقِرِّ فِيهَا، أَوْ بِمَكَانَتِهَا فِي نَفْسِهَا؛ لِأَنَّهَا مُكِّنَتْ بِحَيْثُ هِيَ وَأُحْرِزَتْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [23/ 14] قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْ: خَلْقًا مُبَايِنًا لِلْخَلْقِ الْأَوَّلِ مُبَايَنَةً مَا أَبْعَدَهَا حَيْثُ جَعَلَهُ حَيَوَانًا وَكَانَ جَمَادًا، وَنَاطِقًا وَكَانَ أَبْكَمَ، وَسَمِيعًا وَكَانَ أَصَمَّ، وَبَصِيرًا وَكَانَ أَكْمَهَ وَأَوْدَعَ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ، بَلْ كُلُّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ عَجَائِبُ فِطْرَةٍ، وَغَرَائِبُ حِكْمَةٍ، لَا تُدْرَكُ بِوَصْفِ الْوَاصِفِ، وَلَا بِشَرْحِ الشَّارِحِ، انْتَهَى مِنْهُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: اخْتُلِفَ فِي الْخَلْقِ الْآخَرِ الْمَذْكُورِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: «هُوَ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمَادًا» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «خُرُوجُهُ إِلَى الدُّنْيَا»، وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ فُرْقَةِ نَبَاتِ شَعْرِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خُرُوجُ الْأَسْنَانِ، وَنَبَاتُ الشَّعْرِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَمَالُ شَبَابِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَالصَّحِيحُ، أَنَّهُ عَامٌّ فِي هَذَا وَفِي غَيْرِهِ مِنَ النُّطْقِ وَالْإِدْرَاكِ، وَتَحْصِيلِ الْمَعْقُولَاتِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، اهـ مِنْهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَمِيعَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ خَلْقًا آخَرَ أَنَّهُ صَارَ بَشَرًا سَوِيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ نُطْفَةً، وَمُضْغَةً، وَعَلَقَةً، وَعِظَامًا كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
مَسْأَلَةٌ وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-، عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ بَيْضَةً، فَأَفْرَخَتْ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ الْبَيْضَةَ، وَلَا يَرُدُّ الْفَرْخَ؛ لِأَنَّ الْفَرْخَ خَلْقٌ آخَرُ سِوَى الْبَيْضَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مَا غَصَبَ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ الْغَاصِبُ مَا غَصَبَ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [23/ 14] وَقَوْلُهُ فَتَبَارَكَ اللَّهُ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: تَبَارَكَ: فِعْلٌ مَاضٍ لَا يَنْصَرِفُ، وَمَعْنَاهُ: تَعَالَى وَتَقَدَّسَ. اهـ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ أَيِ: الْمُقَدِّرِينَ وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْخَلْقَ وَتُرِيدُ التَّقْدِيرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ** ضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي

فَقَوْلُهُ: يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي، أَيْ: يُقَدِّرُ الْأَمْرَ، ثُمَّ لَا يُنَفِّذُهُ لِعَجْزِهِ عَنْهُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّحْوِيِّينَ مُخْتَلِفُونَ فِي صِيغَةِ التَّفْضِيلِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ، هَلْ إِضَافَتُهَا إِضَافَةٌ مَحْضَةٌ، أَوْ لَفْظِيَّةٌ غَيْرُ مَحْضَةٍ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ؟ فَمَنْ قَالَ: هِيَ مَحْضَةٌ أَعْرَبَ قَوْلَهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ نَعْتًا لِلَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَمَنْ قَالَ: هِيَ غَيْرُ مَحْضَةٍ أَعْرَبَهُ بَدَلًا، وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُوَ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وَقَرَأَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} [23/ 13] وَقَوْلُهُ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ عَظْمًا: بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَإِسْكَانِ الظَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ فِيهِمَا، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: عِظَامًا بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الظَّاءِ، وَأَلِفٍ بَعْدَهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ، فَالْمُرَادُ بِالْعَظْمِ: الْعِظَامُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا بِإِيضَاحٍ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْمُفْرَدَ إِنْ كَانَ اسْمَ جِنْسٍ، قَدْ تُطْلِقُهُ الْعَرَبُ، وَتُرِيدُ بِهِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ تَعْرِيفِهِ وَتَنْكِيرِهِ وَإِضَافَتِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُمْ بَعْدَ أَنْ أَنْشَأَهُمْ خَلْقًا آخَرَ، فَأَخْرَجَ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ صَغِيرًا، ثُمَّ يَكُونُ مُحْتَلِمًا، ثُمَّ يَكُونُ شَابًّا، ثُمَّ يَكُونُ كَهْلًا، ثُمَّ يَكُونُ شَيْخًا، ثُمَّ هَرَمًا أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى الْمَوْتِ مَنْ عُمِّرَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُعَمَّرْ، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ يُبْعَثُونَ أَحْيَاءً، يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا الْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ الْمَذْكُورَانِ هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ نَظِيرٌ آخَرُ؛ لِأَنَّهُمَا إِمَاتَتَانِ وَإِحْيَاءَتَانِ ذُكِرَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَاحِدَةٌ هُنَا، وَذُكِرَ الْجَمِيعُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [2/ 28] وَقَوْلِهِ: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [40/ 11] كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ وَالْبَقَرَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَلُزُومِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا.

.تفسير الآية رقم (17):

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)} فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {طَرَائِقَ} وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا قِيلَ لَهَا طَرَائِقُ؛ لِأَنَّ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: طَارَقَ النَّعْلَ إِذَا صَيَّرَهَا طَاقًا فَوْقَ طَاقٍ، وَرَكَّبَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ» أَيِ: التِّرَاسُ الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا طَبَقَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ يَصِفُ نَعْلًا لَهُ مُطَارَقَةٌ:
وَطِرَاقٌ مِنْ خَلْفِهِنَّ طِرَاقٌ ** سَاقِطَاتٌ تَلْوِي بِهَا الصَّحْرَاءُ

يَعْنِي: نِعَالَ الْإِبِلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: طَائِرٌ طَرَّاقُ الرِّيشِ، وَمَطْرَقَةٌ إِذَا رَكِبَ بَعْضُ رِيشِهِ بَعْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ يَصِفُ بَازِيًا:
أَهْوَى لَهَا أَسْفَعُ الْخَدَّيْنِ مُطْرِقٌ ** رِيشَ الْقَوَادِمِ لَمْ تُنْصَبْ لَهُ الشَّبَكُ

وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ يَصِفُ بَازِيًا أَيْضًا:
طِرَاقُ الْخَوَافِي وَاقِعٌ فَوْقَ رِيعِهِ ** نَدَى لَيْلِهِ فِي رِيشِهِ يَتَرَقْرَقُ

وَقَوْلُ الْآخَرِ يَصِفُ قَطَاةً:
سَكَّاءُ مَخْطُومَةٌ فِي رِيشِهَا طَرْقٌ ** سُودٌ قَوَادِمُهَا كَدَّرَ خَوَافِيَهَا

فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: {سَبْعَ طَرَائِقَ} يُوَضِّحُ مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} الْآيَةَ [71/ 15] وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا قِيلَ لَهَا طَرَائِقُ؛ لِأَنَّهَا طُرُقُ الْمَلَائِكَةِ فِي النُّزُولِ وَالْعُرُوجِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا طَرَائِقُ الْكَوَاكِبِ فِي مَسِيرِهَا، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: قِيلَ لَهَا طَرَائِقُ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ سَمَاءٍ طَرِيقَةٌ وَهَيْئَةٌ غَيْرُ هَيْئَةِ الْأُخْرَى، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: طَرَائِقُ؟ أَيْ مَبْسُوطَاتٌ فَكِلَاهُمَا ظَاهِرُ الْبُعْدِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [23/ 17] قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [22/ 65]؛ لِأَنَّ مَنْ يُمْسِكُ السَّمَاءَ لَوْ كَانَ يَغْفُلُ لَسَقَطَتْ فَأَهْلَكَتِ الْخَلْقَ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [23/ 17] بَلْ نَحْنُ الْقَائِمُونَ بِإِصْلَاحِ جَمِيعِ شُئُونِهِمْ، وَتَيْسِيرِ كُلِّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} يَعْنِي: {السَّمَاوَاتُ بُرْهَانٌ عَلَى قَوْلِهِ قَبْلَهُ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [23/ 16]؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، مَعَ عِظَمِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [40/ 57] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} الْآيَةَ [79/ 27].
وَقَوْلِهِ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [36/ 81] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا بَرَاهِينَ الْبَعْثِ الَّتِي هَذَا الْبُرْهَانُ مِنْ جُمْلَتِهَا، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهَا وَهِيَ مَذْكُورَةٌ هُنَا، وَلَمْ نُوَضِّحْهَا هُنَا لِأَنَّا أَوْضَحْنَاهَا فِيمَا سَبَقَ فِي النَّحْلِ وَالْبَقَرَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (18):

{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُعَظِّمًا نَفْسَهُ- جَلَّ وَعَلَا- بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْمُرَادِ بِهَا التَّعْظِيمُ وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنَ السَّمَاءِ أَسْكَنَهُ فِي الْأَرْضِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ النَّاسُ فِي الْآبَارِ، وَالْعُيُونِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَنَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- قَادِرٌ عَلَى إِذْهَابِهِ لَوْ شَاءَ أَنْ يُذْهِبَهُ فَيَهْلِكُ جَمِيعُ الْخَلْقِ بِسَبَبِ ذَهَابِ الْمَاءِ مِنْ أَصْلِهِ جُوعًا وَعَطَشًا وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ بِقَدَرٍ أَيْ: بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَهُ يَحْصُلُ بِهِ نَفْعُ الْخَلْقِ وَلَا يُكَثِّرُهُ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يَكُونَ كَطُوفَانِ نُوحٍ لِئَلَّا يُهْلِكَهُمْ، فَهُوَ يُنْزِلُهُ بِالْقَدْرِ الَّذِي فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، دُونَ الْمَفْسَدَةِ سُبْحَانَهُ- جَلَّ وَعَلَا- مَا أَعْظَمَهُ وَمَا أَعْظَمَ لُطْفَهُ بِخَلْقِهِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْأُولَى: الَّتِي هِيَ كَوْنُهُ: أَنْزَلَهُ بِقَدَرٍ أَشَارَ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [15/ 21].
وَالثَّانِيَةُ: {الَّتِي هِيَ إِسْكَانُهُ الْمَاءَ الْمُنَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ فِي الْأَرْضِ بَيَّنَهَا فِي قَوْلِهِ- جَلَّ وَعَلَا- أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [39/ 21] وَالْيَنْبُوعُ: الْمَاءُ الْكَثِيرُ وَقَوْلُهُ: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [15/ 22] عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِي الْحِجْرِ.
وَالثَّالِثَةُ: الَّتِي هِيَ قُدْرَتُهُ عَلَى إِذْهَابِهِ أَشَارَ لَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [67] وَيُشْبِهُ مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [56/ 70]؛ لِأَنَّهُ إِذَا صَارَ مِلْحًا أُجَاجًا لَا يُمْكِنُ الشُّرْبُ مِنْهُ، وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهِ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ، وَقَدْ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ إِنْزَالِهِ الْمَاءَ مِنَ السَّمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [24/ 43] فَصَرَّحَ بِأَنَّ الْوَدْقَ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ الَّذِي هُوَ الْمُزْنُ، وَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي فِيهِ الْمَاءُ وَبَيَّنَ أَنَّ السَّحَابَةَ تَمْتَلِئُ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى تَكُونَ ثَقِيلَةً لِكَثْرَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} الْآيَةَ [7/ 57] فَقَوْلُهُ: ثِقَالًا جَمْعُ ثَقِيلَةٍ، وَثِقَلُهَا إِنَّمَا هُوَ بِالْمَاءِ الَّذِي فِيهَا وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [13/ 12] جَمْعُ سَحَابَةٍ ثَقِيلَةٍ.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ الْمَاءَ فِي الْمُزْنِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ، وَخِلَالُ الشَّيْءِ ثُقُوبُهُ وَفُرُوجُهُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَسْدُودَةٍ، وَبَيَّنَ- جَلَّ وَعَلَا- أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُهُ وَيُصَرِّفُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، فَيُكْثِرُ الْمَطَرَ فِي بِلَادِ قَوْمٍ سَنَةً، حَتَّى يَكْثُرَ فِيهَا الْخِصْبُ وَتَتَزَايَدَ فِيهَا النِّعَمُ، لِيَبْتَلِيَ أَهْلَهَا فِي شُكْرِ النِّعْمَةِ، وَهَلْ يَعْتَبِرُونَ بِعِظَمِ الْآيَةِ فِي إِنْزَالِ الْمَاءِ، وَيُقِلُّ الْمَطَرَ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ السِّنِينَ، فَتَهْلِكُ مَوَاشِيهِمْ مِنَ الْجَدْبِ وَلَا تَنْبُتُ زُرُوعُهُمْ، وَلَا تُثْمِرُ أَشْجَارُهُمْ، لِيَبْتَلِيَهُمْ بِذَلِكَ، هَلْ يَتُوبُونَ إِلَيْهِ، وَيَرْجِعُونَ إِلَى مَا يُرْضِيهِ.
وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ الْإِنْعَامِ الْعَامِّ عَلَى الْخَلْقِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ بِالْقَدْرِ الْمُصْلِحِ وَإِسْكَانِ مَائِهِ فِي الْأَرْضِ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ هُمْ، وَأَنْعَامُهُمْ، وَيَنْتَفِعُوا بِهِ أَبَى أَكْثَرُهُمْ إِلَّا الْكُفْرَ بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [25/ 48- 50].
وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَبَى مِنْهُمْ إِلَّا كُفُورًا الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَطَرَ لَمْ يُنَزِّلْهُ مُنَزِّلٌ هُوَ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَ بِطَبِيعَتِهِ، فَالْمُنَزِّلُ لَهُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الطَّبِيعَةُ، وَأَنَّ طَبِيعَةَ الْمَاءِ التَّبَخُّرُ، إِذَا تَكَاثَرَتْ عَلَيْهِ دَرَجَاتُ الْحَرَارَةِ مِنَ الشَّمْسِ أَوْ الِاحْتِكَاكِ بِالرِّيحِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْبُخَارَ يَرْتَفِعُ بِطَبِيعَتِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ، ثُمَّ يَتَقَاطَرُ، وَأَنَّ تَقَاطُرَهُ ذَلِكَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ لَا فَاعِلَ لَهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الْمَطَرُ. فَيُنْكِرُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي إِنْزَالِهِ الْمَطَرَ وَيُنْكِرُونَ دَلَالَةَ إِنْزَالِهِ عَلَى قُدْرَةِ مُنَزِّلِهِ، وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ، فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِي قَوْلِهِ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا بَعْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا.
وَقَدْ صَرَّحَ فِي قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى، هُوَ مُصَرِّفُ الْمَاءِ، وَمُنَزِّلُهُ حَيْثُ شَاءَ كَيْفَ شَاءَ. وَمِنْ قَبِيلِ هَذَا الْمَعْنَى: مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَثَرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: قَالَ أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ بِي: فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ. هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي صَحِيحِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِبُخَارِ كَذَا مُسْنِدًا ذَلِكَ لِلطَّبِيعَةِ، أَنَّهُ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُؤْمِنٌ بِالطَّبِيعَةِ وَالْبُخَارِ، وَالْعَرَبُ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ بَعْضَ الْمَطَرِ أَصْلُهُ مِنَ الْبَحْرِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يُسْنِدُونَ فِعْلَ ذَلِكَ لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ- جَلَّ وَعَلَا-، وَمِنْ أَشْعَارِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
لَا تَلُمْنِي إِنَّهَا مِنْ نِسْوَةٍ ** رُقَّدِ الصَّيْفِ مَقَالِيتٍ نُزُرْ

كَبَنَاتِ الْبَحْرِ يَمْأَدْنَ إِذَا ** أَنْبَتَ الصَّيْفُ عَسَالِيجَ الْخُضَرْ

فَقَوْلُهُ: بَنَاتُ الْبَحْرِ يَعْنِي: الْمُزْنَ الَّتِي أَصْلُ مَائِهَا مِنَ الْبَحْرِ.
وَقَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
سَقَى أُمَّ عَمْرٍو كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ** حَنَاتِمُ غُرٌّ مَاؤُهُنَّ ثَجِيجُ

شَرِبْنَ بِمَاءِ الْبَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ** مَتَى لُجَجٌ خُضْرٌ لَهُنَّ نَئِيجُ

وَلَا شَكَّ أَنَّ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ- جَلَّ وَعَلَا-، هُوَ مُنَزِّلُ الْمَطَرِ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي يَشَاءُ كَيْفَ يَشَاءُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضَّحَةَ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ} الْآيَةَ [16/ 11] وَغَيْرَهَا، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} قَوْلُهُ: شَجَرَةً: مَعْطُوفٌ عَلَى: جَنَّاتٍ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مُسَوِّغَهُ مِرَارًا أَيْ: فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ، وَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ وَهِيَ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} الْآيَةَ [24/ 35]، وَالدُّهْنُ الَّذِي تَنْبُتُ بِهِ: هُوَ زَيْتُهَا الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [24/ 35] وَمَعَ الِاسْتِضَاءَةِ مِنْهَا، فَهِيَ صِبْغٌ لِلْآكِلِينَ أَيْ: إِدَامٌ يَأْتَدِمُونَ بِهِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ: نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: سِينَاءُ بِكَسْرِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: تُنْبِتُ بِضَمِّ التَّاءِ، وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ مُضَارِعُ أَنْبَتَ الرُّبَاعِيِّ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: تَنْبُتُ بِفَتْحِ التَّاءِ، وَضَمِّ الْبَاءِ مُضَارِعُ: نَبَتَ الثُّلَاثِيِّ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي حَرْفِ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِالدُّهْنِ أَيْ: تَنْبُتُ مَصْحُوبَةً بِالدُّهْنِ الَّذِي يُسْتَخْرَجُ مِنْ زَيْتُونِهَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو، فَفِي الْبَاءِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ: أَنَّ أَنْبَتَ الرُّبَاعِيَّ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَاءِ وَقَدْ قَدَّمْنَا النُّكْتَةَ فِي الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْبَاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الْآيَةَ [19/ 25]، وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَنْبَتَ الرُّبَاعِيَّ، عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو هُنَا: لَازِمَةٌ لَا مُتَعَدِّيَةُ الْمَفْعُولِ، وَأَنْبَتَ تَتَعَدَّى، وَتَلْزَمُ فَمِنْ تَعَدِّيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ} الْآيَةَ [16/ 11] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [50/ 9] وَمِنْ لُزُومِهَا قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو الْمَذْكُورَةُ، وَنَظِيرُهَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
رَأَيْتُ ذَوِي الْحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ ** قَطِينًا بِهَا حَتَّى إِذَا أَنْبَتَ الْبَقْلُ

فَقَوْلُهُ: أَنْبَتَ الْبَقْلُ لَازِمٌ بِمَعْنَى: نَبَتَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي قِرَاءَةِ: {تُنْبِتُ} بِضَمِّ التَّاءِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُضَارِعُ أَنْبَتَ الْمُتَعَدِّي: وَأَنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ أَيْ: تُنْبِتُ زَيْتُونَهَا، وَفِيهِ الزَّيْتُ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: الطُّورُ: هُوَ الْجَبَلُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا يُسَمَّى طُورًا إِذَا كَانَ فِيهِ شَجَرٌ، فَإِنْ عُرِّيَ عَنِ الشَّجَرِ، سُمِّيَ جَبَلًا لَا طُورًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَطُورُ سَيْنَاءَ: هُوَ طُورُ سِنِينَ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْجِبَالِ، الَّتِي فِيهَا شَجَرُ الزَّيْتُونِ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ الْأَنْصَارِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ عُمَرَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ مَقَالٍ، وَقَالَ فِيهِ الْعَجْلُونِيُّ فِي كَشْفِ الْخَفَاءِ وَمُزِيلِ الْإِلْبَاسِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ وَابْنُ مَاجَهْ فَقَطْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِهِمَا ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-. اهـ مِنْهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} الْآيَةَ [16/ 66] مَعَ بَيَانِ أَوْجُهِ الْقِرَاءَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.